سورة العنكبوت - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


يقول الحق جل جلاله: {فآمن} لإبراهيم، أي: انقاد {له لوطٌ}، وكان ابنَ أخيه، وأول من آمن به حين رأى النار لم تحرقه. {وقال} إبراهيم: {إني مهاجرٌ إلى ربي}؛ إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، وهو الشام، فخرج من كوثى، وهي من سواد الكوفة، إلى حرّان، ثم منها إلى فلسطين، وهي من برية الشام، ونزل لوط بسدوم، ومِنْ ثَمَّ قالوا لكل نبي هجرة، ولإبراهيم هجرتان. وكان معه، في هجرته، لوط وسارة زوجته.
وقيل: القائل: {إني مهاجرٌ إلى ربي} هو لوط، فأول من هاجر من الأنبياء إبراهيم ولوط. وذكر البيهقي: إن أول من هاجر منا في الإسلام بأهله: عثمان. ورفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال: إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط. اهـ. يعني: الهجرة إلى الحبشة. وكانت- فيما ذكر الواقدي- سنة خمس من البعثة، وأما الهجرة إلى المدينة؛ ففي البخاري عن البراء: أولُ من قَدِمَ المدينة من الصحابة، مهاجراً، مُصعبُ بن عُمير، وابن أم مكتوم، ثم جاء عمَّارُ، وبلال، وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم.
{إنه هو العزيزُ} الذي يمنعني من أعدائي، {والحكيمُ} الذي لا يأمرني إلا بما هو خير لي.
{ووهبنا له إسحاقَ} ولداً، {ويعقوبَ} وَلَدَ وَلَدٍ، ولم يذكر إسماعيل؛ لشهرته، أو: لأن إسحاق ولد بعد اليأس من عجوز عاقر، فَعَظُمَتْ المِنَّةُ به. {وجعلنا في ذريته النبوةَ} أي في ذرية إبراهيم فإنه شجرة الأنبياء، {والكتابَ} يريد به الجنسَ، ليتناول التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. {وآتيناه أجْرَه في الدنيا} أي: الثناء الحسن، والصلاة عليه آخر الدهر، ومحبة أهل الملل له، أو: هو بقاء ضيافته عند قبره، وليس ذلك لغيره، أو: المال الحلال، واللفظ عام. وفيه دليل على أن الله تعالى قد يعجل لأوليائه بعض الأجر في الدنيا، ولا يخل بعلو منصبهم {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} لحضرتنا، والسكنى في جوارنا. أسكننا الله معهم في فسيح الجنان. آمين.
الإشارة: الهجرة سُنَّة الخواص، وهي على قسمين: هجرة حسية وهجرة معنوية، فالحسية هي هجرة العبد من وطن تكثر فيه الغفلة والعوائق عن الله أو الإذاية والإنكار إلى وطن يجد فيه اليقظة وقلة العوائق. والهجرة المعنوية: هي هجرة القلب من وطن المعصية إلى وطن التوبة، ومن وطن الغفلة إلى وطن اليقظة، ومن وطن الحرص إلى وطن الزهد والقناعة، ومن وطن الحظوظ والشهوات إلى وطن العفة والحرية، ومن وطن الشواغل إلى وطن التفرغ، ومن وطن رؤية الحس إلى رؤية المعاني، وهذه نهاية الهجرة.
قال القشيري: لا تَصحُّ الهجرةُ إلى الله إلا بالتبرِّي بالقلب من غير الله، والهجرةُ بالنفس يسيرةٌ بالنسبة إلى الهجرة بالقلب، وهي هجرة الخواص، وهي الهجرة عن أوطان التفرقة إلى ساحة الجمعِِ، والجمعُ بين التعريج في أوطان التفرقة والكونِ في مشاهدة الجمع متنافٍ. اهـ. وقالَ في قوله تعالى: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} أي: للدنوِّ والقربة والتخصيص بالزلفة. اهـ.


يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {لوطاً إِذْ قال لقومه إِنكم لتأتون الفاحشةَ} أي: الفعلة البالغة في القُبح، وهي اللواطة، {ما سَبَقَكم بها من أحدٍ من العالمين}: جملة مستأنفة مقررة لفحش تلك الفعلة، كأن قائلاً قال: لِمَ كانت فاحشة؟ فقال: لأن أحداً ممن قبلهم لم يقدم عليها، قالوا: لم يَنْزُ ذكر على ذكر قبل قوم لوط. {أئِنكم لتأتون الرجالَ وتقطعون السبيلَ} اي: تتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال، كما هو شأن قُطاع الطريق، وقيل: اعتراضهم السابلة لقصد الفاحشة، {وتأتون في ناديكم}؛ في مجالسكم الغاصة بأهلها، ولا يقال للمجلس: ناد، إلا ما دام فيه أهله، {المنكرَ} فعلهم الفاحشة بالرجال، أو المضارطة، أو: السباب والفحش في المزاح، أو الحذف بالحصى، أو: مضغ العلك، أو الفرقعة.
وعن أم هانىء- رضي اله عنها- أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وتأتون في ناديكم المنكر}؟ فقال: «كانوا يحذفون من يمرّ بهم الطريق، ويسخرون منهم» وقال معاوية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم، وعند كل قصعة من الحصى، فإذا مر بهم عابر قذفوه، فأيهم أصابه؛ كان أَوْلَى به».
{فما كان جوابَ قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذابِ الله إن كنت من الصادقين} فيما تعدنا من نزول العذاب، أو في دعوى النبوة، المفهومة من التوبيخ، {قال ربِّ انصرني} بإنزال العذاب {على القوم المفسدين} بابتداع الفاحشة وحمل الناس عليها، وسَنِّهَا لِمَنْ بعدهم.
وصفهم بذلك؛ مبالغة استنزال العذاب، وإشعاراً بأنهم أحِقاء بأن يعجل لهم العذاب.
{ولما جاءت رسلُنا إبراهيم بالبشرى}، جاءت الملائكة بالبشارة لإبراهيم؛ بالولد، والنافلة إسحاق، ويعقوب، أي: مروا عليه، حين كانوا قاصدين قوم لوط، {قالوا إنا مهلكوا أهْلِ هذه القرية}؛ سدوم، والإشارة بهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه السلام، قالوا: إنها كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم، قاله النسفي. {إن أهلها كانوا ظالمين}، تعليل للإهلاك، أي: إن الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة، وهم عليه مُصِرُّونَ، وهو كفرهم وأنواع معاصيهم. {قال} إبراهيم: {إن فيها لوطاً} أي: أتهلكونهم وفيهم من هو بريء من الظلم، أو: وفيهم نبي بين أظهرهم؟ {قالوا} أي: الملائكة: {نحن أعلمُ} منك {بمن فيها لننجيَّنه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين}؛ الباقين في العذاب.
ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم، فقال: {ولما أن جاءتْ رُسُلُنَا لوطاً سِيء بهم} أي: ساءه مجيئُهم وغمه مخافة أن يقصدهم قومه بسوء. و {أن}: صلة؛ لتأكيد الفعلين وترتيب أحدهما على الآخر كأنهما وُجِدا في جزء واحد من الزمان كأنه قيل: لمَّا أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ترتيب.
{وضاق بهم ذَرْعاً} أي: ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعُه وطاقته، وقد جعلوا ضيقَ الذرعِ والذراع عبارةً عن فقد الطاقة، كما قالوا: رحْب الذراع، إذا كان مُطيقاً للأمور، والأصلَ فيه: إن الرجل إذا طالت ذراعه نال مالا يناله القصير، فاستعير للطاقة والقوة وعدمها.
{وقالوا}، لمّا رأوا فيه أثر الضجر والخوف: {لا تخفْ ولا تحزنْ} على تمكنهم منا، {إنا منجُّوكَ وأهلَكَ} أي: وننجي أهلك، فالكاف في محل الجر، و {أهلك}: نصب بفعل محذوف، {إلا إمرأتكَ كانت من الغابرين}. في الكلام حذف يدل عليه ما في هود، أي: لا تخف ولا تحزن من أجلنا، إنهم لن يصلوا إليك ونحن عندك، بل يهلكون جميعاً، وأما أنت؛ فإنا منجوك... إلخ؛ لأن خوفه إنما كان عليهم لا على نفسه. أو يقدر: إنا منجوك وأهلك بعد هلاكهم. ثم قالوا: {إنا منزلون على أهلِ هذه القرية رِجْزاً}؛ عذاباً {من السماء بما كانوا يَفْسُقُون}؛ بسبب فسقهم.
{ولقد تركنا منها}؛ من القرية {آية بينةً} هي حكايتها الشائعة، أوآثار منازلهم الخربة، وقيل: الماء الأسود على وجه الأرض، حيث بقيت أنهارهم مسودة، وقيل: الحجارة المسطورة، فإنها بقيت بعدهم آية {لقومٍ يعقلون}؛ يستعملون عقولهم في الاعتبار والاستبصار. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: {وتأتون في ناديكم المنكر} قال القشيري: من جملة المنكر: تخلية الفُسَّاق مع فِسقهم، وترك القبض على أيديهم، ومن ذلك: ترك الاحتشام للشيوخ والأكابر. اهـ. وقال في قوله تعالى: {إن فيها لوطاً}، لما أخبروه بمقصدهم من إهلاك قوم لوط تكلم في شأن لوط، إلى أن قالوا: {لننجينه...} إلخ، فدلّ ذلك على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوط، ولو كان بريئاً، لم يكن ظلماً، لو كان كذلك قبيحاً لما كان إبراهيم- مع وفْر علمه- يُشكل عليه، حتى كان يجادل عنه، بل لله أن يعذِّبُ مَنْ يعذِّب ويعافي، من يعافي بلا حَجر. اهـ.
قال شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته: وما ذكره واضح من حيث العقيدة، وإن كانت الآية، وقولُ إبراهيم يحتمل أن يكون من نوع قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. والمعنى الأول معلوم من قوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} [المائدة: 17] الآية. اهـ. قلت: ظاهر قوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]؛ أن مجادلته كانت عن قومه فقط؛ لغلبة الشفقة عليه، كما هو شأنه، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود: 75]... حتى قال له تعالى: {ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ عَنْ هَذَا} [هود: 76] لَمَّا تَحَتَّمَ عليهم العذاب، فتأمله.


يقول الحق جل جلاله: {و} أرسلنا {إلى مدينَ أخاهم شعيباً فقال يا قوم اعبدوا الله} وحده، {وارجُوا اليومَ الآخر} أي: خافوه، واعملوا ما ترجون به الثواب فيه، {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}؛ قاصدين الفساد، {فكذّبوه فأخذتهم الرجفةُ}؛ الزلزلة الشديدة، أو: الصيحة من جبريل عليه السلام؛ لأن القلوب رجفت بها، {فأصبحوا في دارهم}؛ بلدهم وأرضهم، {جاثمين}؛ باركين على الرُكب؛ ميتين.
الإشارة: العبادة مع الغفلة عن العواقب الغيبية المستقبلة، لا جدوى لها، كأنها عادة، وخوف العواقب، من غير استعداد لها، خذلان، والاجتهاد في العمل، مع ارتقاب العواقب الغيبية، فلاح، من شأن أهل البصائر، كما قال تعالى في حق من مدحهم من أكابر الرسل: {أُوْلِي الأيدي والأبصار إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار} [ص: 45، 46].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8